تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 212 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 212

212 : تفسير الصفحة رقم 212 من القرآن الكريم

لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ
وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {26}
يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح الحسنى في الدار الآخرة كقوله تعالى ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) وقوله ( وزيادة ) هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وزيادة على ذلك أيضا ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القصور والحور والرضا عنهم وما أخفاه لهم من قرة أعين وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم فانه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه لا يستحقونها بعملهم بل بفضله ورحمته وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم عن أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الرحمن بن سابط ومجاهد وعكرمة وعامر بن سعد وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم من السلف والخلف وقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن النبي فمن ذلك مارواه الإمام أحمد 4333 حدثنا عفان أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله تلا هذه الآية ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) وقال إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون وماهو ألم يثقل موازيننا ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم وهكذا رواه مسلم 181 وجماعة من الأئمة من حديث حماد بن سلمة به وقال بن جرير حدثني يونس قال أخبرنا بن وهب قال أخبرني شبيب عن أبان عن أبي تميمة الهجيمي أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي يا أهل الجنة بصوت يسمع أولهم وآخرهم إن الله وعدكم الحسنى وزيادة فالحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الرحمن عز وجل ورواه أيضا بن أبي حاتم من حديث أبي بكر الهذلي عن أبي تميمة الهجيمي به وقال بن جرير أيضا حدثنا بن حميد حدثنا إبراهيم بن المختار عن بن جريج عن عطاء عن كعب بن عجرة عن النبي في قوله ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) قال النظر إلى وجه الرحمن عز وجل وقال أيضا حدثنا بن عبد الرحيم حدثنا عمر بن أبي سلمة سمعت زهيرا عمن سمع أبا العالية حدثنا أبي بن كعب أنه سأل رسول الله عن قول الله عز وجل ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) قال الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل ورواه بن أبي حاتم أيضا من حديث زهير به وقوله تعالى ( ولا يرهق وجوههم قتر ) أي قتام وسواد في عرصات المحشر كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القترة والغبرة ( ولا ذلة ) أي هوان وصغار أي لا يحصل لهم إهانة في الباطن ولا في الظاهر بل هم كما قال

تعالى في حقهم ( فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا ) أي نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم جعلنا الله منهم بفضله ورحمته آمين
وَالَّذِينَ
كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ
اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً
أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {27}
لما أخبر تعالى عن حال السعداءالذين يضاعف لهم الحسنات ويزدادون على ذلك عطف بذكر حال الأشقياء فذكر تعالى عدله فيهم وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها لا يزيدهم على ذلك ( وترهقهم ) أي تعتريهم وتعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها كما قال ( وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ) الآية وقال تعالى ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم ) الآيات وقوله ( ما لهم من الله من عاصم ) أي مانع ولا واق يقيهم العذاب كقوله تعالى ( يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لاوزر إلى ربك يومئذ المستقر ) وقوله ( كأنما أغشيت وجوههم ) الآية إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة كقوله تعالى ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) وقوله تعالى ( وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ) الآية
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ
جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا
بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ {28} فَكَفَى بِاللّهِ
شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ {29}
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ
الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ {30}
يقول تعالى ( ويوم نحشرهم ) أي أهل الأرض كلهم من جن وإنس وبر وفاجر كقوله ( وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ) ( ثم نقول للذين أشركوا ) الآية أي الزموا أنتم وهم مكانا معينا امتازوا فيه عن مقام المؤمنين كقوله تعالى ( وامتازوا اليوم أيها المجرمون ) وقوله ( ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون ) وفي الآية الأخرى ( يومئذ يصدعون ) أي يصيرون صدعين وهذا يكون إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء ولهذا قيل ذلك يستشفع المؤمنون إلى الله تعالى أن يأتي لفصل القضاء ويريحنا من مقامنا هذا وفي الحديث الآخر نحن يوم القيامة على كوم فوق الناس وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة إخبارا عما يأمر به المشركين وأوثانهم يوم القيامة ( مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم ) الآية أنهم أنكروا عبادتهم وتبرءوا منهم كقوله ( كلا سيكفرون بعبادتهم ) الآية وقوله ( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ) وقوله ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء ) الآية وقوله في هذه الآية إخبارا عن قول الشركاء فيما راجعوا فيه عابديهم عند ادعائهم عبادتهم ( فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم ) الآية أي ما كنا نشعر بها ولا نعلم بها وإنما كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم والله شهيد بيننا وبينكم أنا مادعوناكم إلى عبادتنا ولا أمرناكم بها ولارضينا منكم بذلك وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره ممن لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به ولا أراده بل تبرأ منهم وقت أحوج ما يكونون إليه وقد تركوا عبادة الحي القيوم السميع البصير القادر على كل شيء العليم بكل شيء وقد أرسل رسله وأنزل كتبه آمرا بعبادته وحده لا شريك له ناهيا عن عبادة ما سواه كما قال تعالى ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة
وقال تعالى ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) وقال ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) والمشركون أنواع وأقسام كثيرون قد ذكرهم الله في كتابه وبين أحوالهم وأقوالهم ورد عليهم فيما هم فيه أتم رد وقوله تعالى ( هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ) أي في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها من خير وشر كقوله تعالى ( يوم تبلى السرائر ) وقال تعالى ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ) وقال تعالى ( ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) وقد قرأ بعضهم ( هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ) وفسرها بعضهم بالقراءة وفسرها بعضهم بمعنى تتبع ما قدمت من خير وشر وفسرها بعضهم بحديث لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت الحديث وقوله ( وردوا إلى الله مولاهم الحق ) أي ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل ففصلها وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ( وضل عنهم ) أي ذهب عن المشركين ( ماكانوا يفترون ) أي ماكانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه